هبطت الطائرة ما بعد منتصف الليل، أخيراً وطأت قدماي الأرض التي سوف تحتضنني لعشرات الأيام القادمة ... بعدما صرفنا العملة مباشرةً أخذنا رفيقتي وأنا سيارة أجرة إلى الدار التي سنبقى فيها، وصلنا ونمت نوماً هانئاً مريحاً استعدت فيه عافية بدني…
استيقظت على السابعة صباحاً بالتوقيت المحلي، نظرت للمكان حولي بإيماءة وابتسامة عريضة ثم عدت للنوم، أفقت خلال الساعات التي تلت عدة مرات حتى صارت الساعة العاشرة وعندها قررت النهوض لأبدأ يومي على هذه الأرض…
استحممت وأفطرت ثم بعد ذلك بدأت أجهز نفسي للخروج، كان الجو حاراً والشمس ساطعةً منيرة وقتها (ففي هذه البلاد الفصل صيف في أوج اشتداده، خلافاً لطقس المغرب الذي كان شتاءً)
وقت الخروج عقدت نية السير اليسير والاختبار الفائق لبركة الأرض، ثم انطلقت لاستكشاف المنطقة التي نزلت بها.. في مؤخرة رأسي كنت أعي بأنه يجب علي ألا أبتعد بسبب أنني لم أدبر خطاً محلياً بعد ولا انترنت لدي، لذا فالأسلم لي أن أجول بالقرب وألا أسرح بعيداً، سلمت على العنكبوت البديعة التي كانت في إحدى أركان الفناء، حملت المروحية اليدوية وخرجت…




تجولت لدقائق بالقرب باحثةً عن مقهى قريب، وجدت واحداً لطيفاً بعد بضعة أزقة، دخلته واخترت زاويةً مفتوحة في فنائه، سألت العاملة هناك عن لائحة المشروبات، شبكت هاتفي بالانترنت وتواصلنا عبر ترجمة غوغل كونها لا تجيد الانجليزية، وأنا لا أجيد البرتغالية، المهم تواصلنا نهايةً.
أخذت أوراقي وبدأت أدون خواطري والأحوال، إدراكاتي والإلهامات، كانت زاوية جلوسي جميلةً جداً وهادئةً بدون موسيقى سوى صوت العصافير، كان المكان حولي أخضراً بهياً، وهذا أكثر ما لفتني في هذه المدينة حتى تلك اللحظة؛ وجود كثير من الأشجار الراوية والخضراء جداً…
جلست أكتب وبين الفينة والأخرى أوجه التركيز لداخلي حتى أعي مشاعري، كنت أشعر بالتوتر والقلق، وبعض من الخوف من الأحكام من الخارج والتي أدركت أنها بداخل رأسي فقط، لما عاينت مشاعري بسماح واحتواء بدلاً من محاولة معايرتها بدأت تتلاشى كثافتها شيئاً فشيئاً وبدأت أضع يدي على مكمن الثقة بداخلي…




بعد ساعتين من مصاحبتي نفسي وتوثيقي لما حضر وخطر خرجت من المقهى والنية كانت العودة للدار، لكن ما حصل هو أنني سِرت أبعد من ذلك، كان لسان حالي وأنا أتمشى وأنظر فيما هو متجسد أمامي من جمال بديع يقول أنت هنا يا إيمان، عابرةٌ عبر الزمان والمكان إلى نطاق جديد، إلى تقاطع جديد لاختبار أشياء جديدة حتماً، تمشيت وأنا أستشعر السعة في الكون، سعة الحياة والحقيقة المطلقة التي أبصر انعكاسها بدرجات متفاوتة في كل مرة…
يقول ابن عربي: "تتلون الحقيقة بوعي العارف كما يتلوّن الماء بلون الزجاج" وبالنسبة لي هذا ما يجعل الحقيقة واحدةً لكل واحد، نسبية حسب نقطة التقاطع التي يختارها المرأ لاختبار الحياة من زاويته، وهذا ما يجعل الحقيقة في مطلقها نسبيةً لنا، وهذا ما أسميه “الواقع”
تنويه ليتحصل الفهم:
— الاختيار هنا شرط، أمّا الوعي به فليس كذلك،
أمّا الاختبار فلا يعني الامتحان، وإنّما يعني الخوض في التجربة —
في طريقي اختبرت فكرتي، كنت أسير في نطاقات مختلفة، أتجول ما بينها بخفة إلى أن تُهت في المدينة، تمشيت كثيراً باحثةً عن طريقي المألوف للعودة، وهو ما لم يتجسد لي...
هناك فكرت ماذا لو أنني ولجت نطاقاً جديداً، ماذا لو أن تلك الدار لا توجد حيث أنا الآن! ماذا لو أنني ولجت نطاقا غريباً عني تماماً، ماذا لو تُهت إلى الأبد وصرت مضطرةً أن أبدأ من جديد، من دون أن أملك شيئاً سوى ذاتي، لا شيء سوى صوتي، جسمي، ذكريات اختباراتي السابقة، وكلماتي للتعبير عنها وترجمة الأحوال، كانت فكرة مثيرة جداً سلمت أنها الواقع حينها وأكملت…
وبينما أنا تائهة في الأرض بدأ الرعد يدوي فجأةً، ثم صارت السماء التي كانت مشرقةً قبل قليل رماديةً، غابت الشمس، ثم بدأت السماء تمطر بشدة، رعد وبرق شديدان ومطر قوي ثقيل، صرت مبتلةً حتى أنني صرت أخطو وسط بركات المياه بصندلي الأحمر الصيفي.
بقيت تحت المطر ساعةً من الزمن لم أشعر بها تماماً، كنت حقاً وفعلاً ما بين المقامات والنطاقات والمدارات، شعرت بأن بوابات عديدة كانت حيث كنت، شعرت وكأنني لما أعبر للجهة المقابلة أجد نفسي قد عدت للجهة التي خلفي، وهكذا بقيت على هذا الحال حتى مضت الساعة، طلبت الانترنت من أشخاص كثر في أكثر من نقطة إلى أن اهتديت إلى الدار ودخلتها آمنةً سعيدة بمشواري الأول وحدي على هذه الأرض…
غيرت ملابسي وضحكت كثيراً امتناناً ثم اتكأت مقابل هذه النافذة الزرقاء أتأمل وقع المطر على أوراق النباتات أمامي سمعاً وبصراً بينما أكتب هذه التدوينة…
كان لساني يسبّح حمداً أنني هنا الآن، أخوض هذا الاختبار وأعيش هذه التجربة الآن
قلبي منفتح لكل ما هو آتٍ في الطريق، لصعوبات المستقبل، ولبركاته وهِباته…
حمداً على نعمة الإدراك، وشكراً على الوصل بالكلمات ترجماناً للأحوال.
ألقاك في الجزء الثاني من الحكاية، لأروي لكِ عن ليلة الرقص وما تلاها ✨
بإتمامكِ التدوينة إليكِ أجزاء الحكاية كاملةً وبالترتيب
- الجزء الثاني: الأنوثة ماءاً دفّاقاً -
- الجزء الثالث: ما بين السخط والرضا تواضع لما خفي -
- الجزء الرابع: على عتبة العودة | تلبية النداء -
- الجزء الخامس والأخير: موت صغير | ولادة البريّة الجامحة -
كلماتٌ تحاكي القلب والعقل والفؤاد♥️
♥️♥️♥️