أهلا بك في الجزء الثالث من رحلة الفاتِحة التي أشارككِ فيها محطات من رحلتي إلى البرازيل بنية التعبير والتمرير؛ التعبير عما عشته وتمرير بركات الرحلة للروح التي طلبت وحضرت لتتلقى
إذا كنت تقرئين عن الرحلة لأول مرة فأدعوك أن تعودي لقراءة الجزء الأول "ما بعد النزول والحلول" والجزء الثاني "الأنوثة ماءً دفاقاً"
في هذا الجزء أروي لك كواليس سفري في ذاك التوقيت والذي كان لحضور تجربة تحولية مع نساء من مختلف بلاد الشام، الخليج والبرازيل... ولأحكي لك القصة من البداية دعينا نعُد لـ:
— ما قبل الإقرار 🐚
كان يناير قد بدأ فعلاً وفصل الشتاء لا يزال في أوسطه، طاقته تدعوني للبقاء في الكهف أكثر، وأنا ألبي هذا النداء الكوني الحق. كنت منذ أعوام مضت قد قررت أن أتبع التقويم الكوني في تخطيط حياتي للعيش بشكل دوري متناغم، ويعني هذا بالضرورة أن أبدأ عامي ربيعاً لا شتاءً. لذا فيناير بالنسبة لي لم يكن بدايةً لشيء، وإنما إكمالاً لطاقة تبلغ ذروتها.
وكما كل قمر جديد فإنني أختار نمطاً للشهر يخدمني في تفعيل طاقته بتناغم مع الفصل الكوني، مراحلي الدورية، أطوار القمر المختلفة، ومكاني من الحياة؛
نمط يناير ومايليه كان التنسيق وهو ما تقتضيه طاقة هذا الطور الأخير من تأمل ومراجعة، لدعم حال التخلي والتسريح والسماح بالرحيل.
— كيف سينتهي عامي؟ 🌿
كنت أعي أنني أعبر من مرحلة إلى أخرى في حياتي، وبقدر ما كنت أسير إلى نهايات عدة فإنني كنت أرى بدايات تلوح في الأفق وتومئ لي مُطَمئِنةً ومُذكِّرةً إياي أن…
“وجه النهاية الآخر هو البداية”
بالتزامن مع كل هذا، كان يتردد بداخلي صدى عهد بأن أطير قبل انتهاء العام إلى بلادٍ جديدة وأفتح مساراً مختلفاً للسلوك في حياتي، إلى أين؟ مع من؟ لماذا؟ لا أدري!



مرَّت الأيام هادئةً وأنا أضع الملامح الأخيرة لآخر مشروعين إبداعيين لي في تلك الفترة مع نساء من المغرب والإمارات، وذات صباح بينما أستمع لموسيقاي التأملية تلقيت دعوةً من “عرين العاسمي” لحضور مخيمها الأول في البرازيل. كنت طوال فترة حديثها عنه أترنح من فرط الحماس!
بالتزامن حدثت صديقتي عن تفاصيل الرحلة الأولية بصوت يشوبه الشك فذكرتني بعهدي قائلةً “ها هي الدعوة جليةً، فهل تلبين؟” حينها تذكرت وأدركت التزامن، وسلَّمت للخوض.
— تسليم فَسعْي 🌊
بالرغم من أن البرازيل لم تكن ضمن لائحة البلدان التي كنت أنوي زيارتها أولاً إلا أنني سلَّمت وخلَّيتُ النية مفتوحةً بما يضمن عدم تفويتي الإشارة وبما يتسق مع حالة جهازي العصبي المتأهب والمترقب.
في اليوم الموالي قدّمت لطلب جواز السفر، وفي أقل من أسبوع كان جاهزاً، أتممت بعض الأمور اللوجيستية، اشتريت التذاكر، ثم أخبرت أهلي بالموضوع، وهنا أود القول بأن ثمار سنوات من الحوار مع أهلي للتفاهم آتت أُكلها بالشكل الذي جعل حديثي إخباراً لا طلباً للإذن.
بدأ موعد السفر يقترب وأنا أصدِّقه في كل يوم قائلة "إنه حق"


— إقدام أم تهور؟ 🏹
شك في داخلي، خوف أشهد عليه وأسمح بوجوده من دون تسليمه المِقود… أو هكذا ظننت!
بقي على سفري أسبوعان وبينما كنت أحكي لصديقي عن برنامج رحلتي المرتقَبة سألني متعجباً بعدما عرف أنني حجزت طيراناً بتوقف في البرتغال!
- "لماذا لم تحجزي طيراناً مباشراً؟"
- فأجبته "لم أجد رحلات مباشرةً."
- فردّ "لماذا لم تحجزي في تواريخ أخرى إذن؟"
- أجبت "لم أجرؤ على الحجز خارج التواريخ فأنا مسافرة وحدي ولا خطط لدي للقيام برحلة سياحية."
غاب قليلاً للاستفسار عن أمر شك فيه بحكم عمله في الجمارك، ثم عاد إليّ بخبر سيء: “لن تتمكني من مغادرة المطار بالتذاكر التي حجزتها أصلاً لأنك تحتاجين تأشيرة للتوقف في البرتغال.” وهذا ما لم أحسب له حساباً، فقد ظننت بما أنه توقف عابر لا يستدعي مغادرة المطار، أنني لن أحتاج سوى جوازي…
— عودة وصل 🌀
بلعت الصدمة برشفة ماء وخلدت للنوم. أفقت في اليوم الموالي أحسّ في جسمي راحةً، وفي قلبي طمأنينة، وفي ذهني عدم وضوحٍ وتشوشاً جراء التفكير فيما يمكنني فعله للاستدراك…
لأخفف صوت عقلي قررت العودة للطبيعة لأتصل بما هو أكبر، لأستشعر وصلي مع الكون حولي، وأعي بأن ما يحدث في حياتي مهما بدا كبيراً فإنه ليس مطلقا، وأنه ليس الحياة كلها، لأتذكر أن هناك ما هو أكبر من ما يحدث…


كان لهذه العودة وقع السحر علي كما كل مرة!
بعد يومين اشتريت تذاكر سفر جديدة بعدما قدمت طلب إلغاء القديمة، رغم معرفتي المسبقة بسياسة الإلغاء الواضحة التي تمنع استرجاع قيمتها.
في ذلك اليوم وما تلاه، كنت أوسع إنائي لاستقبال الحكمة من هذه الخسارة، كنت بحاجة لطرح السؤال الصحيح: “لماذا اخترت رحلات غير مباشرة أصلاً؟"
فعلت ذلك بسبب نظرتي القاصرة وتقيدي بالتواريخ المحددة للمخيم، أما الجذر الخفي ذلك فكان تكبراً على القدرة وعدم تواضعٍ للسعة والوفرة الممكنين والمتاحين لي بلا حدٍّ ولا صدٍّ. ففي الحجز الجديد أسبوعان بدل الواحد، مما يعني متسعاً من الوقت لاختبارات أعمق ولرحلة أغنى.
أدركت بعدها أنني أستحق الخوض والاختبار بتسليم لما سيكون خارج معرفتي وإلمامي به. صحيح أنني دفعت 1100$ لأجل هذه الحكمة لكنها كانت أجمل ما حصل وأحكم تغيير في الرحلة!
الحكمة كانت إدراك أن المسافة بين السخط على الموقف والرضا به إيماناً بحكمة لا نعلمها، هي خيط رفيع من التواضع لما خفي ولم نقدر إدراكه بجلاء، وهذا عين الإيمان.
— صلاة امتنان لما كان 🌷
حمداً على الرعاية والعناية، حمداً على التنبيه لتعديل المسار، حمداً على الرفقة والأنس، حمداً على الرزق المعلوم والآتي مجهولاً وهو حق في الغيب، حمداً على إيماني، تواضعي، صبري، انفتاحي، تلبيتي.
غاية مشاركتي هذا الجزء الغير مثالي من القصة والذي قد لا يكون مثيراً بقدر ما سبقه هي إرادتي الظهور بإنسانيتي من دون حذف، إرادتي أن أُشهدكِ على مشاعر الخوف مقابل الإقدام، على حال الشك مقابل اليقين، على الخسارة مقابل الحكمة، على التردد مقابل الثقة، على كل ما كان ونقيضه، حتى تُبصِريني كما أكون.
هذا ما كان يا رفيقة، لا تنسي مشاركتي انعكاساتك في رسالة عبر البريد أو في تعليق!
إيمان
يا لجمالك أكثر ما أحبه في تدوينك شغفك وانسانيتك
مباركة دوما ومحفوفة بلطف الإله.
الله على سحر الكلمات 🥹