في الجزء الرابع من رحلتي في البرازيل، حكيتُ عن العودة التي لبَّيتُها. وجِئت فيها على ذكر ذاك النداء الداخلي الذي يتجاوز حدود العقل، ذاك النداء الذي غالباً ما نلتقطه على شكل إشارات كونية؛ مثل شعور يتكرر، رغبة لا تُفسَّر، أو توق لشيء لا نقدر تسميته بسهولة.
فما معنى العودة لنا نحن النساء؟ لماذا يجب علينا أن نتحدث عنها بتردد أكبر وعلى نطاق أوسع؟ ولماذا تُصبح هذه العودة، في هذا الزمن، اختياراً وجودياً لا رفاهية؟
هذا ما أنا بصدد الحديث عنه معكِ اليوم من فيض وباستفاضة، لذا جهّزي دفتركِ والقلم لتتأملي معي ولتبدئي بحثكِ الداخلي للوصول إلى طريق العودة الذي يناديكِ…
خذي نفساً بطيئاً وعميقاً، ارفعي كتفيكِ لأعلى ثم أرخيهما بهدوء، ابسُطي عضلات وجهك ودعي ملامحكِ ترتسم برقة، افتحي قلبكِ و استعدي للتلقي…
دعيني في البدء أحكي لك قصّةً من التاريخ الذي ليس ببعيد كمدخل لحديثنا اليوم…
— متى كانت البداية؟
في المجتمعات الأبوية، التي احتكر فيها الرجال السلطة التشريعية والعلمية والدينية لم يكن وصل المرأة بذاتها أمراً مرحّباً به. لأن هذا كان يعني ارتباط المرأة بغرائز لا يمكن للنظام التحكم فيها، بمشاعر لا يمكنه تهذيبها بسهولة، وبحضور أنثوي يصعب احتواؤه ضمن الأدوار التقليدية التي كانت تخدم النظام. في هذا التوقيت هل تعرفين ما الذي ظهر كأداة مُحكمة لفصل النساء وقمعهن وتقييد تعبيرهن الأصيل؟ ظهر التصنيف الطبي "الهيستيريا".
— أصل التسمية ومفهومها 🤡
كلمة "هيستيريا" مشتقة من الكلمة اليونانية hystera التي تعني "الرحم"، وهذا ما يُظهر من البداية كيف تم ربط هذا "الاضطراب" بجسد الأنثى وحده. لقد اعتُبر هذا الاضطراب لفترة طويلة "مرضاً نسائياً بحتاً"، بحيث كان يُفسَّر غالباً بأنه نِتاج اختلالات في الرحم أو بسبب عدم إشباع جنسي، وكأن وجود المرأة العاطفي لا يُفسَّر إلا من خلال جسدها، بل من خلال جزء محدَّد منه.
ساهم هذا التصنيف الطبي للنساء في:
- وصم مشاعر المرأة الطبيعية بالمرض: بدلاً من النظر إلى مشاعر الحزن، الغضب، الرفض، الاحتجاج أو حتى الرغبة في الحرية كاستجابات طبيعية لضغوط اجتماعية خانقة ناتجة عن النظام — تم تحويلها إلى "أعراض مرضية".
- تحييد الصوت الأنثوي: متى ما رفعت المرأة صوتها مطالبةً بالتغيير أو العدالة أو الاستقلال، كان يُنظر إليها كمختلة، لا ككيان مستقل له الصلاحية للمُطالبة بحق.
- السيطرة على الجسد والعقل: عبر هذا التوصيف المرضي، سُمح للأطباء الذكور بالتدخل في جسد المرأة (عبر العلاجات أو حتى الإجراءات الجراحية مثل استئصال الرحم أو إدخالها لمصحات عقلية)، وفرض وصايتهم عليها باعتبارها غير قادرة على إدارة نفسها.
— أمثلة من التاريخ 📜
في القرن التاسع عشر، كانت نساء كثيرات يُدخلن إلى المصحات النفسية لأسباب مثل: القراءة المفرطة، رفض الزواج أو الأمومة، الإعراض الجنسي، الحزن بعد وفاة طفل، البكاء المفرط، أو حتى الخيال النشط.
حتى سيغموند فرويد نفسه، أحد أبرز مؤسسي التحليل النفسي، ربط في بداياته بين الهيستيريا وذكريات صادمة عند النساء، لكنه تراجع تحت الضغط المجتمعي وأعاد تفسير الحالات كـ "أوهام" جنسية لا واقعية، مما ساهم أكثر في تعزيز التفسير الذكوري القامع للنساء.
بينما كانت الحقيقة في الكثير الحالات صرخةً غريزة مكلومة تتوق للحرية، تعبيراً عن اختناق داخلي ناتج عن العزلة، القهر، الكبت الجنسي والعاطفي، والعجز عن اتخاذ القرار في حياة محكومة بالكامل بالآخَر. كانت الحقيقة ببساطة محاولةً للوصل مع الذات في سياق اجتماعي لا يعترف بالمرأة ككيان مستقل.
هنا نعود إلى سؤالنا الجوهري: ما الذي يجعل العودة إلى الموطن – بكل أشكالها الغريزية – مخيفة؟ والجواب ببساطة، لأنها لا تسير وفق قوانين المجتمع، ولا تخضع للمنطق الذكوري القائم على السيطرة، والتحكم، والفصل. وهنا تماماً تظهر ضرورة وأهمية العودة إلى ما كان قبل الفصل ومحاولات الترويض الأبوية لغريزة المرأة البريّة.
والآن دعينا نبدأ من البداية؛
— ما العودة؟ 🌀
إنها غريزة الرجوع للفطرة البريّة ما قبل الترويض، للمكان العتيق الذي نتذكره. هي قدرتنا على اكتشاف موطننا الأصلي —ذاتنا البريّة— وإعادة حال الوصل الأصلي والطبيعي.
إنها استعادة السيادة الذاتية لنا كنساء على أجسادنا، مشاعرنا، أحوالنا الداخلية، حدسنا، قوانا الشفائية، وقدراتنا التي نُفيت وقُيِّدت ولم تُعطَها المساحة لتظهر ولم يُسمح لنا بتجسيدها.
إنها تذكّر لحكمة أرحامنا العتيقة وقدرتها الخيمائية على الخلق والتحويل من خلال المتعة.
إنها ببساطة رحلة تحرر من الاستعمار الذي مارسه علينا النظام الأبوي لفصلنا.
— إلى أين تكون العودة؟ 🌄
العودة تكون إلى مكان داخلي في الزمان —حالة وجودية— إلى المكان الذي تشعرين فيه بأنكِ موصولة وقادرة على التواجد من دون الحاجة لحذف أي جزء منكِ أو تهذيبه. إلى المكان الذي تشعرين فيه بأنكِ غير مُضطرة للعب أيّ دورٍ لتشعري بأحقيتكِ في اختبار مشاعركِ والتعبير عن أفكاركِ. إلى المكان الذي تكونين فيه كافيةً من دون الحاجة لإثبات ذلك.
في كتاب “نساء يركضن مع الذئاب” تمّ تعريف الموطن —والذي إليه تكون العودة— على أنه حالة مزاجية أو إحساس قوي يُتيح لنا تجربة المشاعر التي لا يُسمح لنا بالاحتفاظ بها في هذا العالم، مثل: الدهشة، البصيرة، السلام، التحرر من القلق، التحرر من المطالب، التحرر من الثرثرة المستمرة.
وعلى الرغم من وجود العديد من الأماكن الفعلية التي نستطيع الذهاب إليها لكي "نشعر" فيها بطريق الرجوع إلى الموطن الخاص، إلا أن الأماكن الفعلية ليست في حد ذاتها هي الموطن؛ بل إنها فقط المركبة التي تهزهز الأنا لكي تنام حتى نستطيع الذهاب لنقطع باقي الطريق بأنفسنا. إن المركبات التي من خلالها وبها تصل النساء إلى الموطن كثيرة ومتعددة: الموسيقى، الفن، الغابة، اهتياج المحيط، شروق الشمس، العزلة والقِفَر. هذه هي الأشياء التي تأخذنا إلى الموطن، إلى عالم داخلي مغذٍّ لديه أفكار وقوت.
— المكوث في المنفى 🥀
ما الذي يحصل عندما لا تعود المرأة إلى موطنها الأصلي، إلى ذاتها البريّة وغريزتها الحسدية؟
عندما تمكث المرأة بعيدةً عن موطنها الأصلي لأمدٍ طويل، فإنها تحزن، تبهٌت ألوانها، يضيق أفقها، يتقلَّص مداها، يجفّ جلدها ويذبل فتتلاشى قدرتها على تمييز إحساسها بالمشاعر الأوَّلية كالبرودة والحرارة، الإثارة والرعب، الأمان والخطر، البهجة والحزن.
عندما تمكث المرأة بعيدةً عن موطنها الأصلي لأمدٍ طويل، يتلاشى دافعها الداخلي للمضيّ قدماً في الحياة، وتدريجياً تفقد رغبتها في الحركة، ومن فرط التصاق القيد الذي كبَّل اختياراتها بجلدها فإنها تتمسّك به على أنه خلاصها بدلاً من خلعه، تعيش في حدوده ونطاقه الضيق مسلوبة الدافع لتستمر في إرضاع جرائها الميتة؛ الجراء الميتة هي الأفكار التي تحدّ من اتساعها، الأعمال الروتينية، المتطلبات المنهِكة، إنها تلك الأشياء الميتة التي لا حياة فيها والتي لا تمدّها بأية حياة.
— مبررات المكوث في المنفى ⏳
تقول كلاريسا بنكولا في كتابها نساء يرضكن مع الذئاب: توجد مبررات للمرأة البعيدة عن موطنها. إنها لم تتعوّد على ترك المجاديف للآخرين. قد تكون من النمط "المدمن للصغار"، وهو عبارة ابتهال تمضي على هذا النّحو: "لكنّ صغاري يحتاجون هذا، صغاري يحتاجون ذاك… إلخ". إنها لا تدري أنه بالتضحية بحاجتها إلى العودة، تعلِّم أطفالها أن يُقدموا على نفس التّضحية حينما يكبرون!
وبغض النظر عن وقت عودتكِ —ساعة أو عدة أيام— تذكّري أن باستطاعة الآخرين أن يدللوا قططكِ ويلاطِفوها، حتى لو كانت تستريح لمداعباتك أنتِ. إن كلبك سيحاول أن يجعلك تظنين كأنما تهجرين طفلك وتتركينه في الطريق العام، لكنه سوف يسامحك. سوف يصير لون العشب أصفر قليلاً، لكنه سيعيش ويبقى، سوف تفتقدان أنت وطفلك بعضكما البعض، لكنك ستبتهجين لدى عودتك. قد يتهجم رفيقك، إلا أنهم جميعاً سوف يتجاوزون ذلك. البقاء لأمد طويل هو الجنون. أما العودة للموطن فعين العقل.
تخشى بعض النساء من أن المحيطين بهن لن يتفهموا حاجتهن إلى العودة. إن الكثيرين لن يفعلوا، لكن ينبغي على المرأة هي نفسها أن تتفهم ذلك: حينما تعود المرأة إلى موطنها وفقاً لدورانها، يكون الآخرون حولها قد اكتسبوا شخصياتهم العملية، وتكون لهم قضاياهم الحيوية الخاصة التي يتعاملون معها. إن عودتها إلى موطنها تسمح لهم بالنمو والتطور أيضاً.
— تمييز نداء العودة 🗝️
العودة قد لا تبدو منطقية، والغالب أنها ليست كذلك بل حدسية غريزية. ذلك أن العقل يتبع ويسير خلف ما هو مألوف له، وما يملك عليه دليلا فقط، أما ما ينادي به الحدس وتستثيره الغريزة البريَّة الغير مروَّضة للمرأة فلا يحتكم لمنطق العقل، لذا فالنداء لا يُدرك عن طريق العقل.
أوتدرين؟ هذا ما جعل النظام الأبوي الذكوري يهاب المرأة وبالتالي سعى للحدّ من قواها ومداها عبر نعتها بالجنون، وتصنيفها كائناً لا يقدر النجاة في هذا العالم إلا وفقاً للقوانين التي يسنّها هو.
هناك بدأ استنكار المشاعر وتهذيب الأفكار وترويض الغرائز، هناك تمّ إبعادنا قسراً عن موطننا الأصلي —ذاتنا البريّة— ولهذا تماماً تجب العودة في هذا الوقت أكثر من غيره.
— طريق العودة 🍃
هناك طرق عديدة للعودة، والتي سوف تختلف بالضرورة من فترة إلى أخرى حسب مرحلتكِ وحاجتك. كأن:
✧ تكتبي على الورق وتترجمي أحوالكِ والخواطر إلى كلمات،
✧ ترسمي وتقومي بمحاكاة أفكاركِ عبر الألوان والأشكال،
✧ تسمعي حكايةً وتنسجي مشاهدها وأحداثها في مخيلتك،
✧ تحدّقي في مكوّنات الطبيعة وتخترقي بشرتها لتتواصلي مع ما بعدها،
✧ تستلقي على الأرض وتلاعبي الظلال التي تُوقِعها حولكِ أشعة الشمس،
✧ ترقصي وتحرّكي كوامن جسدكِ لتُفعِّلي طاقة الخلق المكنونة فيكِ،
✧ تَخيطي بأناملكِ وتَحيكي نسيجاً من أنفاسِ حضوركِ،
✧ تسيري في الأرض مُولِيةً وعيكِ إلى نفَسكِ والخطوات،
✧ تصمُتي ملياً وتتلقَّي من السماء ومن الأرض على حدٍّ سواء،
✧ تجلسي في الشرفة تقشرين البرتقال وتستنشقي عطر زيته المتطاير،
✧ تضربي على الطّبل بكفّيكِ وعلى الأرض بأقدامكِ مُحاكيةً نبضاتِ قلبكِ،
✧ تسامري النجوم على بساطٍ من صوفٍ في ليلةٍ برَّاقةٍ سماؤُها،
✧ تقعي في المياه بحراً أو نهراً وتُسلِّمي للموج وللتيّار،
✧ تغرسي يديكِ في الأرض كالجذور وتنسجمي مع مكوّنات التراب وكائناته،
✧ تسافري مع الموسيقى إلى ما بعد جسدك،
✧ تركبي حافلةً بلا وجهة وتنزلي لاستكشاف مكان جديد بروح الطفلة الواثقة التي فيكِ،
✧ تُلاقي النساء وتنعمي بمجرّدِ الوجود في حضرتهن وحضرة كيانكِ في المكان…
كلها طُرقٌ لتعودي إلى ذاتكِ، إلى برّيتكِ، لتتذكري المكنون وتستثيري المدفون، حتّى تعودي موصولةً متمكِّنةً من قدراتكِ الشفائية وقواكِ الخلاقة، تماماً كما وُجدتِ لتكوني…
تقول كلاريسا بنكولا أيضاً عن تكلفة العودة: “من المهم أن نعي بأن الذهاب إلى الموطن لا يكلفنا بالضرورة مالاً أو سفراً وترحالاً. إنه في الحقيقة يكلفنا وقتاً. إنه يكلفنا فعلاً قوياً من أفعال الإرادة. لذلك فهي ليست بالضرورة رحلةً شاقةً تطوين فيها البراري والقِفار، إلا أنها أيضاً ليست بسيطةً ولا هيِّنةً؛ لأنكِ ستواجهين فيها مقاومةً شديدة”.
تعرفين بأنكِ عدتِ من المنفى إلى موطنكِ الأصلي لمّا تشعرين بأن روحكِ سكنت أخيراً.
تعرفين بأنكِ عدتِ من المنفى إلى موطنكِ الأصلي لمّا تكتفين بمجرد وجودكِ.
إن وجدتِ نفسكِ في هذه الكلمات، إن شعرتِ بالتّوقِ للعودة، إن شعرتِ بالحنين للتواجد مع نساءٍ يُجدنَ لغتكِ، نساءٍ مُريدات للتذكر والعودة مثلكِ، فتسعدني دعوتكِ لحضور حلقات لمّ شَمل النسائية الشهرية أونلاين والتي سأعود لتيسيرها في نهاية هذا الشهر.
لمّ شَمل هي مساحة آمنة وخاصَّة لإعادة وصل حلقة النساء والنهل من نهر الحكمة والقوى الشفائية الكامن في دواخلنا بعد إعادته لحال التدفق الأصلي والسريان.
يمكنكِ حجز مقعدكِ مجاناً لحضور حلقة لمّ شَمل الأولى هذا الشهر يوم الأربعاء 25 يونيو 2025 عبر تعبئة هذه الاستمارة.
إلى حين لقيانا اكتبي لي في التعليقات انعكاسكِ، وحدِّثيني ما الذي يعنيه لكِ المنفى؟ ما هو شعور العودة منه لديكِ؟ وأين تشعرين بأنكِ أكثر اتصالاً بذاتكِ البريّة الغريزيّة الأصلية؟
رفيتكِ في الرحلة إيمان
اخ يا لجمال الكلمات ✨️🕯
العودة رحلة اخوضها منذ فترة من الزمن أحيانا اقترب وأحيانا اخاف وأعود للمنفى ...بكل صدق انا اعرج على موطني مرارا آمنة ان استقر واتنفس بحمد انني اسقريت اخيرا رجعت ...رجعت اخيرا وتجسدت 🕯 ✨️حكايات النساء🪡🧶☕️ غيب وإيمان وصدق ومتعة
"تركبي حافلةً بلا وجهة وتنزلي لاستكشاف مكان جديد بروح الطفلة الواثقة التي فيكِ"
هذه الجملة أشعلت دماغي دهشة وبهجة وأعادتني إلى الطريق.
أحببت سردك الصوتي ووجود النص مكتوبًا
استمتعت بالانصات لالقائك العذب واخذتيني إلى نفسي وحقيقتي.
ممنونتك إيمان.